بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه أما بعد،
فإن الموت قضاء نافذ و حكم شامل كتبه الله على الجن و الإنس و غيرهم، يفني منهم الشيخ الكبير كما يفني الولد الصغير، ويهلك الكهل القوي، كما يهلك الشاب الفتي،يبطش بالعظيم كما يبطش بالحقير، لم ينج منه أمير أو وزير، هو الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، و عناد الملحدين، و طغيان الطغاة المتألهين، لا يزال يتخطانا إلى غيرنا و يوشك أن يتخطى غيرنا إلينا، و مع هذا نجد بعض الناس اليوم يترددون في صدق انطباق الآيات التي يذكر فيها الله موت الخلائق على الجن .
و جواب هذا من وجوه كثير منها في كتاب الله تعالى فقد قال الله: {كل شيء هالك إلا وجهه} و قد تنوع تفسير السلف لمعنى قوله" هالك إلا وجهه" على معنيين الأول منهما: أن اسم الهلاك يراد به الفساد و الخروج عما يقصد، قال الزجاج في قوله: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا} أي: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين وكذلك قوله: {وأقيموا وجوهكم} فإن الوجوه التي هي المقاصد والنيات التي هي عمل القلب وهي أصل الدين: تارة تقام وتارة تزاغ.
المراد هنا أن كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه و لهذا فإن اسم "الوجه" في الكتاب والسنة إنما يذكر في سياق تقرير ألوهية الله و عبادته طاعته وحده فيكون بذلك المعنى المراد ما سبق ذكره، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى(2/31): ((وهذا مناسب لما لا يكون لله فإنه فاسد لا ينتفع به في الحقيقة بل هو خارج عما يجب قصده وإرادته. قال تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} أخبر أنهم يهلكون أنفسهم بنهيهم عن الرسول ونأيهم عنه ومعلوم أن من نأى عن اتباع الرسول ونهى غيره عنه - وهو الكافر - فإن هلاكه بكفره هو حصول العذاب المكروه له دون النعيم المقصود)) .
أما ذكر الهلاك بمعنى الفساد فمثله قول الله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون} قال ابن جرير الطبري: (( فإن قال قائل: وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: " أهلكناها فجاءها "؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينـزل بهم ولا بمساكنهم؟قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:أحدهما: أن يكون معناه: " وكم من قرية أهلكناها "، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنـزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها " فجاءها بأسنا " إذ فعلت ذلك بياتا أو هم قائلون "، فيكون " إهلاك الله إياها "، خذلانه لها عن طاعته, ويكون " مجيء بأس الله إياهم "، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم)) انتهى المراد .
المعنى الثاني للهلاك هو الموت: و هذا المعنى فيه فائدة عظيمة القدر في إبطال قول من قال انه ما ثَم إلا وجود واحد و أن حقيقة وجود الخالق هي حقيقة وجود المخلوق كما الإتحادية وغيرهم يدعون أن هذا القول غاية في التحقيق ، فلو كان كما قالوا لما استُثنِيَ الخالق من الموت كما شمل لفظ"كل" كل المخلوقات فدل هذا على المغايرة بين الخالق و المخلوق، و على هذا درج السلف فقد قال الضحاك إلا وجهه: إلا الله والجنة والنار والعرش، أقول: غير انه لا دلالة على أن الجنة و النار هما الله و لا العرش،لكن سياتي الكلام عنهما في موضعها فيما بعد، و قال ابن كيسان: إلا ملكه.
قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية(1/170): ((وأما قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} وذلك أن الله أنزل {كل من عليها فان} فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: {كل شيء} من الحيوان {هالك} يعني ميتا {إلا وجهه} فإنه حي لا يموت فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت )) .
غير أن في هذه الآية ما يستثنى مما ثبت الشرع بإستثنائه، قال ابن ابي حاتم 17217 - حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، ثنا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُقَاتِلٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ يَعْنِي الْحَيَوَانَ خَاصَّةً من أهل السموات وَالْمَلائِكَةَ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَجَمِيعَ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ تَهْلِكُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَهْلِكُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَمَا فِيهَا وَلا الْعَرْشُ وَلا الْكُرْسِيُّ.
ثم بين بعض المفسرين ضابط شمول الموت بوجود الروح من عدمها فما خلته الروح لا يشمله الموت ، قال مقاتل بن سليمان: (( وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، انما هو كل شيء فيه الروح، كما قال لملكة سبا {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} لم تؤت الا ملك بلادها.وكما قال {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} لم يؤت الا ما فى يده من الملك. ولم يدع فى القرآن من كل شيء وكل شيء الا سرده علينا)) .
و هذا ما أقره أئمة السلف في الجمع بين العموم في الآية و الأدلة الأخرى قال حرب الكرماني: ((ولقد خُلِقتِ الجنةُ وما فيها وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خَلَقَهما اللَّهُ ثم خلقَ الخلقَ لهما لا يفنيانِ، ولا يفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ تعالى: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا، فقلْ له: كل شيء ممَّا كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا)).
و هذه الشبهة مما يورده أهل الضلال على من أثبت وجود الجنة و النار الآن، فجاء و أنزل دلالة الآية في هلاك كل شيء و حملها على العموم المطلق، فجعل منها الجنة و النار و إلا لوجب الإضطراب لكن الصواب الذي لا محيد عنه، هو الجمع بين الأدلة فالله قد أخبرنا أن الدار الآخرة دار خلود ومن فيها مخلدون لا يموتون فيها وخبره سبحانه لا يجوز عليه خلف ولا نسخ .
الآية الثانية قوله تعالى {قيل ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجن والإنس}قال ابن وهب في التفسير331 - قال: وسمعت الليث بن سعد يحدث أن الشياطين يموتون كما يموت الناس، قال: وذكر الله ذلك في القرآن حين يقول: {في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجن والإنس}. و فيها معنى لطيف لأن قوله تعالى في أمم، المقصود بهما المكلفين، لأن الجن و الإنس يجمعهما وصف التكليف و بذلك يصلح أن نقول بكتابة الموت على كل مكلف .
الآية الثالثة: قوله تعالى { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } قال: ((أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة، قال: فيموت إبليس أربعين سنة)) .
أما أدلة موتهم من السنة النبوية فكثيرة منها: ما أخرجه الإمام البخاري في الصحيح7383- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: ((أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَالجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ)) .و في مسلم 2236- حديث أبي سعيد الخدري حديث طويل قال: ((...فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ)) .
هذا و الله تبارك و تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ، و الحمد لله رب العالمين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق