بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه أما بعد،
فان الله تعالى أمرنا بالدعاء و وعدنا بالاجابة في غير موضع من كتابه و ذلك لمن يدعو موقنا لأن اليقين بالله تعالى عند الدعاء من أكمل درجات الإيمان بالله و أسمائه و صفاته.
و قد اختلفت آراء أهل العلم في استجابة الله لدعاء الكافر إلى مجيز و مانع، و استدلوا بأدلة كثيرة أرجحها و الله أعلم عند القائلين بالجواز،لوضوح الآيات في ذلك كما في قوله تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} فمدح نفسه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد، المرجو عند النوازل، فيكشف ما يدعون إليه إن شاء، ثم ما استدل به المانعون من آيات كقوله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} حملوها على أن دعاءهم لأصنامهم من دون الله في ضلال و بطلان لاحتمالها ذلك، و إن كانت بالمعنى العام أي "أن كل دعائهم في ضلال" أنزلوها على الدار الآخرة لا الدنيا، و الله أعلم بمراده.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى(1/206): ((والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم وقد يجيب الله دعاء الكفار فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا )) .وقال أيضا في مجموع الفتاوى(1/224): ((وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافرا وفي الصحيح عن النبي أنه قال: {ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا: يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر} )).
لكن لا يساوى دعاء المؤمن و الكافر فإن المؤمن يدعو تعبدا وتقربا كما يشمل دعاؤه دعاء العبادة، من حمد و شكر و تهليل، مع دعاء المسألة و الطلب، و هذا الذي يثاب عليه، أما الكافر فيدعونه مسألة و اضطرارا لجلب مصلحة و غالبا مايكون لدفع المضار،قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/216): ((فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي، وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرّأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده )) .
و روى إسحاق بن راهوية في مسنده 1686- أخبرنا عيسى بن يونس،نا الأوزاعي،عن حسان بن عطية قال:((لا بأس أن تؤمن على دعاء الراهب إذا دعا لك. فقال: إنه يستجاب لهم فينا ولا يستجاب لهم في أنفسهم)) .
و الداعي حين يدعو محسنا الظن بربه مستصغرا ذنبه في جنب كرم ربه، أوشك أن يستجاب له لأن الله عند حسن ظن عبده به، و الشيطان مافتىء يعد أولياءه الفقر و يأمرهم بالفحشاء إلا أنه لا سلطان له على المؤمنين المحسنين الظن بربهم .
و أحوال الداعي يمكن تقسيمها إلى قسمين: دعاء فردي، و دعاء جماعي، فالفردي: كالدعاء في الصلاة عند محل الإستفتاح و الرفع و السجود و غيرها، أما الجماعي فهو ما يكون من الفرد الواحد بصيغة الجمع و صور هذا تختلف، فيكون منه الدعاء و منهم التأمين كما في الإستسقاء .
و المؤمِّن على دعاء غيره يعتبر بمثابة الداعي، لأن مجرد حضور المجالس إن كانت خيرا أصابه شيء منها كما في قوله تعالى في الحديث القدسي: (( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) كما أن الله تعالى امتدح عباده المؤمنين بإعراضهم عن اللغو و مجالس الزور فقال تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان(1/242):((وتأمل كيف قال سبحانه {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله؟. والغناء من أعظم الزور. والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما فى حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال: "هذا الزور" فالزور: القول، والفعل، والمحل)) .
فالذي يحضر مجالس الذكر و يؤمن على الدعاء في محله، يكون كالداعي نفسه كما كان من نبي الله هارون مع رسوله موسى عليهما السلام.
قال ابن وهب في التفسير206- حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سعد في قول الله لموسى وهارون: {قد أجيبت دعوتكما} قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن. وقد روي عن ابن عباس وعكرمة وابن زيد وأبي العالية والربيع بن أنس ومحمد ابن كعب وأبي صالح مثله.
و قال ابن جرير 17855- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين فقال الله: {قد أجيبت دعوتكما} فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها.
قال ابن كثير عند تفسيره قوله تعالى في شأن موسى وهارون قال قد أجيبت دعوتكما: ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن فنزل منزلة من دعا؛ لقوله تعالى: قد أجيبت دعوتكما. فدل ذلك على أن من أمن على دعاء كأنما قاله .و بهذا يكون الداعي والمؤمن شريكان.
كما انه قد جاءت أحاديث تنهى أن يستأثر الداعي لنفسه بالدعاء في مواضع القسم الثاني .
فقد أخرج ابن ماجة في سننه 923-حدثنا محمد بن المصفى الحمصي قال: حدثنا بقية بن الوليد، عن حبيب بن صالح، عن يزيد بن شريح، عن أبي حي المؤذن، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يؤم عبد فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم. قد روي من وجوه أخرى في المسند و أبي داود و الترمذي .
المراد هنا الدعاء الذي يؤمن المأموم عليه كدعاء القنوت فإن المأموم إذا أمن كان داعيا، لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما، فإن لم يدع الإمام دعاءا يشمل فيه نفسه و غيره فقد خان المأمومين، لذا وجب عليه في دعائه بتلك المواطن أن يعم به نفسه و الحاضرين،قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية (1/93): ((فَإِن صَحَّ هَذَا الحَدِيث يكون المُرَاد بِهِ الدُّعَاء الَّذِي يُؤمن عَلَيْهِ الْمَأْمُوم كدعاء الْقُنُوت فَإِن الْمُؤمن دَاع لقَوْله تَعَالَى مُوسَى وأخيه {قد أجيبت دعوتكما} وَكَانَ أَحدهمَا يَدْعُو وَالْآخر يُؤمن فَإِذا كَانَ الْمَأْمُوم يُؤمن وَيَدْعُو الإِمَام فالدعاء يكون بِصِيغَة الْجمع كَمَا فِي دُعَاء الْفَاتِحَة {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم }))
هذا و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله رب العالمين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق