بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في قاعدة الحكم على الظاهر
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه أما بعد،
فمن الدوافع للتذكير بهذه القاعدة و تأملها ما انجر خلفه الكثير من الناس اليوم، متساهلين في إطلاق الأحكام خاصة من مرجئة العصر الضالين المضلين.
حيث أهملوا إطلاق الأحكام على الظاهر الذي وصل في ظهوره إلى درجة اليقين مما يتبادر إلى ذهن الناظر المنصف من القرائن، و العلامات، و الأمارات، و الأفعال، و الأقوال .
و حصروا الحكم على الباطن الذي عِلمُه من خصائص الله تباك و تعالى، حتى صاروا يعتذرون لعباد القبور المشركين، بما يغلب على ظنونهم الفاسدة أن هؤلاء المشركين يحملون في بواطنهم خيرا، لهذا فإن ما ساروا إليه من أبطل الباطل، لأن العمل يشبه التنصيص بالقول و دليلا على الباطن بل قد يكون أبلغ منه في مواضع.
فإذا أظهر خيرا، حيث كان عاملا بالتوحيد القولي الذي هو الشهادة، و التوحيد العملي الذي هو الصلاة حقن دمه، لكن هذا ليس بإطلاق فالصحابة قد قاتلوا و حكموا بالردة بقرينة غير هته و هي الإمتناع عن إخراج الزكاة .
روى الإمام مالك في الموطأ: عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، إذ جاءه رجل فساره فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهر: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فقال الرجل: بلى ولا شهادة له. فقال: أليس يصلي. قال: بلى ولا صلاة له . فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله عنهم.
ظاهر الحديث أنه لما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل هذا الرجل سأل عن أمرين بهما يكون حقن الدم و هما: التوحيد و الصلاة .
قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-:(( إن المانع من قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمنافقين هو أنه لا يجوز له أن يحكم فيهم بعلمه وإنّما بما ظهر له منهم )).
وقال الإمام الشّافعي -رحمه الله تعالى-: ((الأحكام على الظاهر، والله وليّ المغيّب، ومن حكم على الناس بالإزكان أي: الباطن، جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّ الله عزّ وجلّ إنّما يُولِي الثّواب والعقاب على المغيّب؛ لأنّه لا يعلمه إلاّ هو جلّ ثناؤه، وكلّف العباد أن يأخذوا من العباد بالظّاهر، ولو كان لأحدٍ أن يأخذ بباطنٍ عليه دلالةً كان ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم)).
من فوائد الحديث: 1- كفر تارك الصلاة لأن مفهوم المخالفة هنا أن الرجل لو لم يكن مقيما للصلاة لقتل و هذا يهدم صرح المرجئة من أصله.
2-أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل إلا عن أمرين بهما عصمة الدم و هما التوحيد و الصلاة .
3- دل الحديث على أن الصلاة بمرتبة التوحيد لا بمرتبة باقي الأركان لأن التوحيد باللسان هي الشهادة و التوحيد بالأفعال هي الصلاة و تركها هو الشرك .
و من أنزلها إلى مرتبة باقي الأركان لم يعرف حقيقة الدين و لا جمع الأدلة الواردة في حكمها و حكم تاركها .
4-و من فوائد الحديث فهم الصحابة للتوحيد أنه ليس نطقا فقط لقوله: هو يشهد أن لا إله إلا الله بلسانه و لا شهادة له أي لم يأتي بها على وجهها .
و هنا مبحث آخر في مشروعية إمتحان الأشخاص بإيمانهم إذا حصل فيهم شك أو جاؤوا من دار شرك إلى دار إسلام مظهرين التوحيد والخير كما في آية الإمتحان قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
بمعنى اسألوهم إن كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله و يقيمون الصلاة، ثم قال تعالى: الله أعلم بإيمانهن، أي أن علم الباطل مايعلمه إلا الله، فإن علمتموهن مؤمنات، و في ذلك أن الحكم يكون بالظاهر و غلبة الظن بناء على ما قال .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله: { َالله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}أي: هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور.
و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق