بسم الله الرحمن الرحيم
في قوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من أهتدى بهداه أما بعد،
فإن العلم أشرف مارغب فيه الراغب وأفضل ماطلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب ؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه ، وفضله يَنْمي عند طالبه ، قال الله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فمنع سبحانه المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم وقال الله تعالى {وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} فنفى أن يكون غير العالم يعقل عنه أمراً أويفهم عنه زجراً .
و بما أن الجهل هو نقيض العلم، احتيج لبيان حقيقة الجهل فإنه من الأهمية بمكان أن نعرف الجهل و أقسامه .
قال الراغب الاصفهاني في المفردات (209/1) :(( الجهل على ثلاثة أضرب:
- الأول: وهو خلوّ النفس من العلم، هذا هو الأصل، وقد جعل ذلك بعض المتكلمين معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام.
- والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
- والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا، كمن يترك الصلاة متعمدا، وعلى ذلك قوله تعالى: قالُوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ، فجعل فعل الهزو جهلا، وقال عزّ وجلّ: فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )).
و الجهل في القرآن يُذكر تارةً على سبيل الذم وهو الأكثر لأنه مذموم ، ولذلك صار العلم ممدوحًا ، وتارةً لا على سبيل الذم باعتبار ما يُستعمل فيه نحو قوله تعالى :{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء} الجاهل المراد به هنا الذي لا يعرف حال هؤلاء الفقراء يسمى جاهلاً ، و إذا كنت لا تعرف ما حقيقة الفقير هل هو صادق أم لا ، أو أنه فقير أم لا ، ليس بمذمومٍ في الجملة ، حينئذٍ هنا أُطلق الجهل ولم يكون مذمومًا
و قد جاء لفظ الجهل في القرآن الكريم في سياقات عديدة، بمعاني مختلفة بحسب سياق الآيات، و موضع الكلمة من الجملة، و الحركة آخر الكلمة.
*كقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}و قوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} و السؤال الذي يطرح هنا مالحكمة من نصب سلاما في الآية الاولى و رفعها في الثانية ؟
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد(158/1): ((فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}، فسلاماً هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه، أي: قالوا: قولاً سلاماً، أي: سداداً وصواباً وسليماً من الفحش والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم..... إلى أن قال ابن القيم: وأما قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فآمنوا به فعيرهم المشركون، وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل، ففارقتم دينكم وتبعتموه، ورغبتم عن دين قومكم فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل، فقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وكان رفع السلام متعيناً، لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعيناً، لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل ))
قال مكي بن أبي طالب في الإيضاح ناسخ القرآن ومنسوخه(375) : ((قوله تعالى: {وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه}، إلى قوله: {سلامٌ عليكم} الآية:
ذكر بعض العلماء أنه منسوخٌ بالنهي من النبي عليه السلام عن السلام على الكفار. وقيل هو منسوخٌ بالأمر بالقتال والقتل.
والذي عليه أهل النّظر وهو الصواب: أن الآية محكمةٌ غير منسوخة، وأن معنى "السلام" فيها: المتاركة والمداراة من الكفار، وليس هو من السّلام الذي هو تحيةٌ، لأن السّلام عليهم محظورٌ بقوله تعالى: {والسّلام على من اتّبع الهدى}
ومعنى الآية عند مجاهد: أن المؤمنين كانوا إذا آذاهم الكفار
أعرضوا عنهم وقالوا: "سلامٌ عليكم"، أي: أمنةً لكم لا نجاوبكم ولا نسابّكم "لا نبتغي الجاهلين" أي: لا نطلب عمل الجاهلين، فهي محكمة)).
*و منها قوله تعالى لنوح عليه الصلاة و السلام:{إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
بمعنى: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين
جاء قبلها: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم ، {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في مسألتك إياي عن ذلك.
و قد ذهب جماعة من أهل التأويل أنه ابنه نسبا، في قوله تعالى:{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} لكنه ليس من أهل نوح الذين وعده الله بنجاتهم .
القول الثاني: انه ابن امراءته و استدلوا بقوله تعالى{فَخَانَتَاهُمَا}و الراجح و الله أعلم القول الأول انه ابن نوح -عليه السلام- لأن القول الثاني بعيد،
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة وغيره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ((هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية ))
و كما قال ابن عباس -ضي الله عنه- ، وغير واحد من السلف : ((ما زنت امرأة نبي قط)) .
و قول ابن عباس: ((في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه))
* و منها قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
تكلم الله تعالى عن الذي يعملون السوء بجهالة، قال الحسن: السوء هو المعاصي ،سمي سوءا لسوء عاقبته، و الذين يرجترحونه سموا جهالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه حق،حتى عملوا سوءا عن غفلة من أنفسهم أوسهو لأن المؤمن لا يأتي السيئات إلا عن غلبة هواه رشده أو عن جهل منه .
و قد أجمعت الصحابة رضي الله عنهم أن ما عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو جهلاً وكل من عصاه فهو جاهل .
* و منها قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
تكلم الله تعالى عن الذي يعملون السوء بجهالة، قال الحسن: السوء هو المعاصي ،سمي سوءا لسوء عاقبته، و الذين يرجترحونه سموا جهالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه حق،حتى عملوا سوءا عن غفلة من أنفسهم أوسهو لأن المؤمن لا يأتي السيئات إلا عن غلبة هواه رشده أو عن جهل منه .
و قد أجمعت الصحابة رضي الله عنهم أن ما عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو جهلاً وكل من عصاه فهو جاهل .
قال الإمام الشافعي في أحكام القرآن (2/186):(({إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} ذكروا فيها معنيين أحدهما إنه من عصى فقد جهل من جميع الخلق والآخر أنه لا يتوب أبدا حتى يعلمه وحتى يعمله وهو لا يرى أنه محرم والأول أولاهم ))
قال شيخ الاسلام بن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/33):{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب} فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب ))
بمعنى توبتهم قبل الغرغرة، هذا هو الراجح لأن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر،فكل من أصاب ذنباً فهو جاهل بالله، و كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .
قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن عكرمة {الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}قال: الدنيا كلها قريب، وكلها جهالة .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى (7/22):{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}قال أبو العالية سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا لي كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وكذلك قال سائر المفسرين قال مجاهد كل عاص فهو جاهل حين معصيته وقال الحسن وقتادة وعطاء و السدي وغيرهم إنما سموا جهالاً لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين وقال الزجاج ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءا وإنما يحتمل أمرين:
أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه .
والثاني : أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة وآثروا العاجل على الآجل فسموا جهالاً لا يثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل واما فساد الارادة وقد يقال هما متلازمان وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية ، والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل وكل خائف منه فهو عالم ))
و مفهوم المخالفة هنا يدل على أن من خشي لله فهو عالم، كما أن كل من عصاه فهو جاهل، بل حصر الله تعالى خشيته في أهل العلماء و أسماءهم في كتابه العلماء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي يخشونه الخشية الكاملة المقرونة بالخوف و التعظيم، لانهم الذين عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وتبصروا في شريعته وآمنوا بما عنده من النعيم لمن اتقاه، وما عنده من العذاب لمن عصاه وخالف أمره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/178): أثبتها للعلماء فكل عالم يخشاه فمن لم يخش الله فليس من العلماء بل من الجهال كما قال عبدالله بن مسعود: كفى بخشية الله علما، و كفى بالإغترار بالله جهلا )).
و قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (1/362):{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} قال : هذه في أهل الإيمان {و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى حضر أحدهم الموت قال أني تبت الآن} قال : هذه في أهل النفاق : {و لا الذين يموتون و هم كفار} قال : هذه في أهل الشرك ))
كلام شيخ الإسلام هذا يوحي أن أهل الإيمان و إن عصوا فإنهم يوفقون للتوبة، لهذا خصهم الله تبارك و تعالى بالمغفرة و الرحمة، أما أهل النفاق فإنهم بعيدون عن التوفيق للتوبة النصوح قبل الغرغرة، لذلك ذكروا في الآية الثانية دون الأولى و الله تعالى أعلم و أجل .
كلام شيخ الإسلام هذا يوحي أن أهل الإيمان و إن عصوا فإنهم يوفقون للتوبة، لهذا خصهم الله تبارك و تعالى بالمغفرة و الرحمة، أما أهل النفاق فإنهم بعيدون عن التوفيق للتوبة النصوح قبل الغرغرة، لذلك ذكروا في الآية الثانية دون الأولى و الله تعالى أعلم و أجل .
قال ابن رجب في لطائف المعارف (1/364):{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما} و عمل السوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها و كبيرها و المراد بالجهالة الإقدام على السوء و أن علم صاحبه أنه سوء فأن كل من عصى الله فهو جاهل و كل من أطاعه فهو عالم و بيانه من وجهين :
أحدهما : أن من كان عالماً بالله تعالى و عظمته و كبريائه و جلاله فأنه يهابه و يخشاه فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه كما قال بعضهم : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه و قال آخر : كفى بخشية الله علماً و كفى بالاغترار بالله جهلاً.
و الثاني : أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله و ظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها و إن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره و هذا جهل محض فإنه تعجل الإثم و الخزي و يفوته عز التقوى و ثوابها و لذة الطاعة و قد يتمكن من التوبة بعد ذلك و قد يعاجله الموت بغتة فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر و رجاء أن يتخلص من ضرره بشرب الذرياق بعده و هذا لا يفعله إلا جاهل))
و الله تبارك و تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
و الله تبارك و تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق