بسم الله الرحمن الرحيم
في قوله تعالى {وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ}[آل عمران: 146]
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ }
قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية(115/1)
((أَن الضعْف ضد الْقُوَّة وَهُوَ من فعل الله تَعَالَى كَمَا أَن الْقُوَّة من فعله تَقول خلقه الله ضعيفا أَو خلقه قويا وَفِي الْقُرْآن {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} والوهن هُوَ أَن يفعل الْإِنْسَان فعل الضَّعِيف تَقول وَهُوَ فِي الْأَمر يهن وَهنا واهن إِذا أَخذ فِيهِ أَخذ الضَّعِيف وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا وَأَنْتُم الأعلون} أَي لَا تَفعلُوا أَفعَال الضُّعَفَاء وانتم أقوياء على مَا تطلبنونه بتذليل الله إِيَّاه لكم))
و أما الإستكانة لغة فهناك من يقول أنها مأخوذة من الكين كما قال ابن منظور في لسان العرب: ((الكين لحمة داخل فرج المرأة )) لخضوع هذا الموضع .
قال ابن جرير:حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة :(( { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ} ، يقول : ما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم {وَمَا اسْتَكَانُواْ}يقول : ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم ، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله )) فتكون الاستكانة بمعنى الذل و الخضوع للعدو .
ذلك لأن النفوس على التأثُّر بالهزيمة مجبولة، فحصول الهزيمة تبلغ مبلغها في النفس، حيث تكون غالبا مؤثرة على المسلم، لكن هذه سنة الله تعالى جارية على خلقه، فكلٌ له حظه من الابتلاء و يبتلى الناس على قدر ايمانهم .
لكن انفساً ذاقت طُعم الايمان و حلاوته كأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الربيون الذين قالتوا مع الانبياء حالهم مع الهزائم حال أخرى، فكثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم جموع كثيرة من أصحابهم، فما ضعفوا لِمَا نزل بهم من جروح أو قتل؛ لأن ذلك في سبيل ربهم، وما عَجَزوا، ولا خضعوا لعدوهم، إنما صبروا على ما أصابهم،كما وصفهم الله تعالى في الآية السالف ذكرها، و هاهو شيخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين عصفت ريح الفتنة كيف صدها بغير ضعف و لا وهن و لا استكانه
قال العلامة ابن القيم في الفروسية (502/1):(( فشمَّر الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خوار، وانتضى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار، وامتطى من ظهور عزائمه جوادًا لم يكن يكبو يوم السباق، وتقدم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنَّما همه اللحاق، وقال والله لأجاهدن أعداء الإسلام جهدي، ولأصدقنهم الحرب حتى تنفرد سالفتي، أو أفرد وحدي، ولأدخلنهم في الباب الذي خرجوا منه، ولَأَرُدَّنَّهُمْ إلى الحق الذي رغبوا عنه، فثبَّت الله بذلك القلب الذي لو وزن بقلوب الأمة لرجحها جيوش الإسلام، وأذلَّ بها المنافقين، والمرتدين، وأهل الكتاب، وعبدة الأصنام، حتى استقامت قناة الدين من بعد اعوجاجها، وجرت الملة الحنيفية على سننها ومنهاجها، وتولَّى حزب الشيطان وهم الخاسرون، وأذَّن مؤذن الإيمان على رؤوس الخلائق فَإِنَّ {حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
هذا وما ضعفت جيوش عزماته، ولا استكانت ولا وهنت، بل لم تزل الجيوش بها مؤيَّدة ومنصورة، وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر في موطن من المواطن، بل لم تزل مغلوبة مكسورة، تلك لعمر الله الشَّجَاعَة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمَّة التي تصاغرت عندها عليات الهمم، ويحق لصديق الأمة أن يضرب من هذا المغنم بأوفر نصيب، وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوة بكمال التعصب))
و هناك آية أخرى من سورة المؤمنون الآية 76{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}
فهنا الممتدح في الآية الذلة والخضوع لامره و نهيه و إظهار المسكنة لله على عكس الآية الأولى فهي الإستكانة للعدو .
الآية الاولى من آل عمران تبين أن اصحاب الانبياء ما ضعفوا، و ما ذلوا لانفسهم، و ما استكانوا لعدوهم، مع وجود الدوافع لذلك، لكنهم انما استكانوا لله بفعل اوامره في غاية من الذل و الانكسار
أما الحزب الآخر الذين ذكرهم في سورة المؤمنون فقد ابتلاهم بالمصائب و الشدائد فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من المخالفة بل استمروا في ضلالهم و غيهم .
قال العلامة ابن القيم في التفسير القيم:((والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه، ويحب من يشكو ما به إليه.
وقيل لبعضهم: كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه؟ فقال: ربي يرضى ذل العبد إليه.
والمقصود: أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا. وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم، وأصبرهم لحكم اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ))
هذا و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق