بسم الله الرحمن الرحيم
في قوله تعالى{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[سبأ: 24]
قال العلامة ابن سعدي-رحمه الله تعالى- في تفسيره(40/1) :((وأتى بـ "على "في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ "في "كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر)).
جاء الظرف في الهدى ظرف استعلاء ، إذ الهدى مظنة استعلاء صاحبه
ف"على" تفيد العلو ، وهكذا هو الحق عال دائمًا ، وأتباعه عالون على غيرهم .
و ذلك مصداق قوله تعالى :{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} و :{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وجاء "في" الضلال ظرف إحاطة وانغماس وذلك بحال الضلال أليق فصاحبه منغمس فيه غارق في دياجيره، فكأن الضلال يحتوي أصحابه ، مقيدًا لهم عن أن يروا الحق المبين .
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله تعالى-في مدارج السالكين(40/1-39): ((فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ( على ) في ذلك أيضًا ، وكيف يكون المؤمن مستعليًا على الحق وعلى الهدى ؟ قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه ، فكان في الإتيان بأداة ( على ) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب ؛ فإنه يؤتى فيه بأداة ( في ) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه ؛ كقوله تعالى :{ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } وقوله:{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } وقوله :{ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ } وقوله :{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } ... ثم قال: وتأمل قوله :{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} فإن طريق الحق تأخذ علوًا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين )) .
ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن "الهدى" أوّلا ثمّ "الضلال"، وذلك أنّه قال:"إنّا" في بداية الجملة أوّلا، ثمّ قال "إيّاكم"، لتكون تلميحاً إلى هدى الفريق الأوّل، وضلالة الفريق الثاني.
ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف "المبين" يرتبط فقط "بالضلال"، لأنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها. ولكن هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء، لأنّ الصفة في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة، وعليه فيكون "الهدى" مبنياً و "الضلال" مبنياً .
و استعمال لفظ "أو" في هذا السياق هو من باب : التنزل مع الخصم و الإنصاف في الحجة ، ولو كان قوله باطلا وحجته متهافتة ،كما يقول القائل : أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب، والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد ، بل على أمرين متضادين
قال الطبري-رحمه الله تعالى- في تفسير الآية: ((والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب، كما يقول الرجل لصاحب يخاطبه، وهو يريد تكذيبه في خبر له: أحدنا كاذب، وقائل ذلك يعني صاحبه لا نفسه، فلهذا المعنى صير الكلام بـ "أو".))
و قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (155/3) :((وهذا من الإنصاف في الخطاب الذي كل من سمعه من وليّ وعدوّ قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك كما يقول العادل الذي ظهر عدله للظالم الذي ظهر ظلمه : الظالم أما أنا وإما أنت لا للشك في الأمر الظاهر ولكن لبيان أن أحدنا ظالم ظاهر الظلم وهو أنت لا أنا))
فجاء الخطاب على وجه الاستعطاف والمداراة، ليسمع الكلام، وهذا من أحسن ما ينسب به المحق نفسه إلى الهدى وخصمه إلى الضلال لأنه كلام من لا يكاشف خصمه بالتضليل، بل ينسبه إليه على أحسن وجه ويحثّه على النظر ولا يجب النظر إلا بعد التردّد .
و قد جاءت هذه الصيغة في المخاطبة و إستدراج المخاطب في القرآن الكريم في آيات كثير منها آيات سورة الكافرون .
قال شيخ الاسلام في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (58/3) : ((وكذلك قوله : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. فإن هذه الكلمة كقوله : {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} . وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فقوله :{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} : يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه كما قال : {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ولهذا قال النبي في : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} :هي براءة من الشرك )) .
و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق