بسم الله الرحمن الرحيم
في الفرق بين الإكمال و الإتمام في قوله تعالى{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}
اكمال الدين هو اتمامه وظهوره و عزه: والمعنى اكملت لكم نصر دينكم، وقيل اكملت لكم فرائضه فلم ينزل بعدها فريضة و قيل عزه وظهوره، وذلّ الشّرك
و زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم
و قيل معناه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها
أما إِتمام النعمة فقيل فيها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس رضي الله عنه: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً، فلما نزلت {براءة}، فنفى المشركين عن البيت، وحج المسلمون، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة. و قيل الهداية إِلى الإيمان،
قال ابن كثير:كما قال تعالى:(({ وَتَمّتْ كَلِمتُ رَبّكَ صِدْقاً وعَدلا} أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم )) في هذا يكون تمام النعمة بكمال الدين .
قال العلامة ابن القيم في اجتماع الجيوش الاسلامية(35/2):((وكان الكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة واللفظتان وإن تقاربتا وتوازنتا فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات وذلك باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ) . وقال عمر بن عبد العزيز : " إن للإيمان حدودا وفرائض وسننا وشرائع فمن استكملها فقد استكمل الإيمان " ، وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني ، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان . وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن ))
خلاصة كلام ابن القيم أن الكمال يطلق في الصفات و المعاني، أما التمام ففي الأعيان،فيكون الكمال لا نقص فيه أما التمام فيكون قابلا للنقص أو الزيادة ، و نضرب لذلك مثالا لما يولد الصبي يكون تامة الأعضاء، له عينان له أذنان له ذراعان فيكون في هذه الحال تاما التمام الذي ضده النقص، لكنه لايقال عنه كامل في عقله و تصرفه و إبصاره و سماعه، فهذا يكون مثالا مناسبا للتفريق بينهما .
و قال العلامة ابن القيم في مفتاح دار السعادة و منشور ولاية العلم و الإرادة(302/1):(( وتأمل كيف وصف الدّين الَّذي اخْتاره لهم بالكمال وَالنعْمَة الَّتِي اسبغها عَلَيْهِم بالتمام إِيذَانًا فِي الدّين بِأَنَّهُ لَا نقص فِيهِ وَلَا عيب وَلَا خلل وَلَا شَيْء خَارِجا عَن الْحِكْمَة بِوَجْه بل هُوَ الْكَامِل فِي حسنه وجلالته وَوصف النِّعْمَة بالتمام إِيذَانًا بدوامها واتصالها، وَأَنه لَا يسلبهم إِيَّاهَا بعد إِذْ أعطاهموها بل يُتمهَا لهم بالدوام فِي هَذِه الدَّار وَفِي دار الْقَرار.
وَتَأمل حسن اقتران التَّمام بِالنعمة وَحسن اقتران الْكَمَال بِالدّينِ وإضافة الدّين اليهم إِذْ هم القائمون بِهِ المقيمون لَهُ، وأضاف النِّعمة اليه إذ هو وليهَا ومسديها والمنعم بهَا عَلَيْهِم فهي نعمته حقا وهم قابلوها، واتى فِي الْكمال بِاللَّام المؤذنة بالاختصاص وَأَنه شَيْء خصوا بِهِ دون الامم وَفِي إتْمَام النِّعْمَة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والاحاطة فجَاء اتممت فِي مقابلَة أكملت وَعليْكم فِي مُقَابلَة لكم ونعمتي فِي مقابلَة دينكمْ واكد ذَلِك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله {ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَكَانَ بعض السّلف الصَّالح يَقُول ياله من دين لَو ان لَهُ رجَالًا))
فالله تعالى أعطاهم من النعم ما يحتاجون، لكن النعمة قابلة للزيادة على ما يحتاج الإنسان على عكس إكمال الدين فكون الدين كاملا أي انه ليس قابلا للزيادة فيه و لا النقصان فقد اكملت أصوله و فرعوه .
قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم-رحمه الله تعالى-في حاشية ثلاثة الأصول(152/1):((لم يتوف صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين وبلّغ البلاغ المبين، حتى قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ... وهذا أكبر نعم الله على هذه الأمة، حيث أكمل لها دينها،فلا يحتاجون إلى دين سواه، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وقال تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، وفيها بيان أن الله أكمل لنا الدين،وإنه كمل من جميع وجوهه، والكامل لا يزاد فيه، ولا ينقص منه، ولا يبدل، قال تعالى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} فمن ادعى أنه يحتاج إلى زيادة فقد كذب وافترى ورد مدلول هذه الآية ومدلول قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))
فيكون عطف اتمام النعمة على اكمال الدين من باب عطف العام على الخاص و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .