بسم الله الرحمن الرحيم
بعض مميزات منهج أهل الحديث و الأثر
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من تبع هداه أما بعد،
فالطريق الذي نرجوا أن نكون عليه سائرين هو منهج السلف الصالح رحمهم الله و رضي الله عنهم، هو حبل الله المتين و صراطه المستقيم و لا شك أن لهذا المنهج ما يمتاز و به عن غيره من مذاهب أهل الزيغ و الضلال في مصادر التلقي و أصول الملة و قواعد الدين، و قد منَّ الله على هذه الأمة برجال أعلاما يقتدى بهم كانوا السياج المتين الذي حال بين الدين و أعدائه، فحفظوا دين الله بإذنه و دافعوا عنه و بدلوا الغالي و النفيس في سبيل تحقيق ذلك،
و هؤلاء إن لم يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا أعلم مَن هم قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك :(( أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم وترك البدع ، وكل بدعة ضلالة))
و كما ذكر اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة عن حذيفة-رضي الله عنه و عن أبيه-قال : ((اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً))
ثم ياتي من بعدهم من اقتدى بهم .
فنجاة المسلم تتعلق بتمسكه بهذا المنهج القويم و الصراط المستقيم قولا و عملا و اعتقادا، و للأسف ظهر في زماننا من يتهكم بالسنة و يطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و يصفهم بأشنع الأوصاف كاتهام بعضهم بدسِّ الإسرائيليات في السنة حتى في أخطر الأبواب و هو باب المعتقد و ردوا كثيرا من الآثار الثابثة عنهم رضي الله عنهم في هذا الباب، و يترتب على ذلك مسائل خطير لا تحمد عقباها منها أتهامهم بالكذب على الله و من هذا كذلك يفتح الباب على مصراعيه للطعن في القرآن و السنة فنعوذ بالله من الزيغ و الضلال .
و من المعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بافتراق هذه الأمة إلى ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة و هم أهل السنة الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه و سلم على ماكان عليه اعتقادا و عبادة و سلوكا، و لعل مما امتاز به منهج أهل الأثر عن غيره من سبل أهل الضلال مصادر التلقي عندهم و هي القرآن و السنة و إجماع الأمة دون جنوح لغير ذلك من الآراء الفاسدة فأهل الضلال ضلوا من بابين الأول: عدم جمعهم للأدلة في الباب الواحد فاستدلوا ببعضها دون الآخر فخابوا و خسروا و هذا ديدنهم في كل المسائل التي خالفوا فيها منهج اهل الأثر بل و ما استدلوا بآية و لا حديث إلا كان الرد عليهم من نفس الآية أو الحديث الذي أرادوه على هواهم .
الثاني: التقليل من شأن بعضها و جعله ظني الدلالة وجعلهم الأدلة تابعة لعقولهم الفاسدة و أنزلوها مرتبة القضاء و الفصل أما الدليل عندهم فتابع للعقل بمرتبة الشَّاهد حيث أنه يأتي موافقا للعقل و إلا ردوه و حكَّموا العقل على النقل دون الأخذ بعين الإعتبار مسألة تفاوت مداركهم، فأصبحوا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب .
وسطيتهم بين الإفراط و التفريط و الغلو و الجفاء في كل أبواب الدين و منها العقيدة، قال شيخ الأسلام في منهاج السنة:((أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور، فهم في علي وسط بين الخوارج والروافض، وكذلك في عثمان وسط بين المروانية وبين الزيدية، وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم، وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة، وهم في القدر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم، وهم في الصفات وسط بين المعطلة وبين الممثلة))
و قال شيخ الإسلام في كتاب الزهد و الورع:(( وَكثير من الْعباد يرى جنس الْمَشَقَّة والألم والتعب مَطْلُوبا مقربا الى الله لما فِيهِ من نفرة النَّفس عَن اللَّذَّات والركون الى الدُّنْيَا وَانْقِطَاع الْقلب عَن علاقَة الْجَسَد وَهَذَا من جنس زهد الصابئة والهند وَغَيرهم وَلِهَذَا تَجِد هَؤُلَاءِ مَعَ من شابههم من الرهبان يعالجون الْأَعْمَال الشاقة الشديده المتعبة من أَنْوَاع الْعِبَادَات والزهادات مَعَ أَنه لَا فَائِدَة فِيهَا وَلَا ثَمَرَة لَهَا وَلَا مَنْفَعَة الا أَن يكون شَيْئا يَسِيرا لَا يُقَاوم الْعَذَاب الْأَلِيم الَّذِي يجدونه وَنَظِير هَذَا الأَصْل الْفَاسِد مدح بعض الْجُهَّال بِأَن يَقُول فلَان مَا نكح وَلَا ذبح وَهَذَا مدح الرهبان الَّذين لَا ينْكحُونَ وَلَا يَذبُّونَ وَأما الحنفاء فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكني أَصوم وَأفْطر وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني وَهَذِه الْأَشْيَاء من الدّين الْفَاسِد وَهُوَ مَذْمُوم كَمَا أَن الطُّمَأْنِينَة الى الْحَيَاة الدُّنْيَا مَذْمُوم ))
ثم قسَّم رحمه الله الناس إلى ثلاث أَقسَام فقال:(( وَالنَّاس أَقسَام
1- أَصْحَاب دنيا مَحْضَة وهم المعرضون عَن الْآخِرَة
2- وَأَصْحَاب دين فَاسد وهم الْكفَّار والمبتعدة الَّذين يتدينون بِمَا لم يشرعه الله من أَنْوَاع الْعِبَادَات والزهادات
3- وَالْقسم الثَّالِث وهم أهل الدّين الصَّحِيح أهل الاسلام المستمسكون بِالْكتاب وَالسّنة وَالْجَمَاعَة وَالْحَمْد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ ))
يتميز منهجهم بالوضوح و السهولة و اليسر بموافقته للعقل السليم و للفطر السليمة التي فطر الله الناس عليها فيهتدون من خلال ذلك لمسائل الإعتقاد على سبيل الإجمال كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى قال :(( واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل)) لكن يجعلون ميزان صحة المعقولات هي موافقتها للكتاب و السنة قال أبو القاسم إسماعيل الأصفهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة: ((وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم))
ليس لهم إمام معصوم إليه يرجع عند الخلاف و التنازع إلا النبي صلى الله عليه و سلم فكل يؤخذ من قوله و يرد إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال شيخ الإسلام في منهاج السنة:(( وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْصُومَ تَجِبُ طَاعَتُهُ مُطْلَقًا بِلَا قَيْدٍ، وَمُخَالِفُهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أَثْبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ خَاصَّةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . فَدَلَّ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ طَاعَةَ مَعْصُومٍ آخَرَ.
وَمَنْ عَصَى الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَطَاعَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، فَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَبَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَجَعَلَهُ الْقَسِيمَ الَّذِي قَسَّمَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ الشَّقِيُّ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِغَيْرِهِ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ - أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عَلَى أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ سِوَى الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ، فَإِنَّهُ الْمَعْصُومُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَهُوَ الَّذِي يُسْأَلُ النَّاسُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} )) .
و يأتي باقي الميزات بإذن الله تعالى في مواضيع أخرى و الله تعالى أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .