بسم الله الرحمن الرحيم
شهر رمضان: بقدر علو الهمة تسهل المهمة
تجري الأيام بسرعة ترتجف منها القلوب الحية، تجعل أصحاب هذه القلوب يقفون مع أنفسهم محاسبين لها، مستحضرين ما قدمته و أخرته في حق الله تعالى ،فيما انقضى من أعمارهم و أيامهم قبل أن يفوت أوانهم و تنقضي آجالهم،
فيجب على المسلم أن يعتبر بما فيه معتبر و أن يعد ليوم الرحيل
قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ((ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)).
و بكون المرء من أبناء الآخرة، يبني لها بنيانها بعمل صالح و نية خالصة لله تعالى ،فذلك يسهل عليه سهولة الإنتقال لداره التي أعدها الله له .
قال ابن رجب في لطائف المعارف(59/1): ((أرض الجنة اليوم قيعان، والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان)) .
و قد فضل الله تعالى بحكمته خلقا على خلق، كما اصطفى الأنبياء و الرسل، و ملائكة على ملائكة كما اختار جبريل و ميكال، و أمكنة على أمكنة كما هي الحال بمكة و المدينة فجعلهما حرما و بيت المقدس بارك من حوله، و أياما على أيام فخَيْر يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، و شهورا على شهور كرمضان المبارك فجعل له خصاصة و قداسة .
و كل ما عظمه الله تبارك و تعالى ضاعف فيه ثواب الحسنات، و بالمقابل عظم فيها عقوبة الجارحين على أنفسهم بالسيئات .
فعن محمد بن مسلمة في المعجم الأوسط للطبراني مرفوعاً : (( إن في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً ))
و من هذه النفحات نفحة رمضان، هذا الشهر العظيم الجليل الذي تـهفُو اليه نفوس المؤمنين، و تتطلع شوقا لبلوغه أفئدة المتقين، كما قال ابن الجوزي: ((الذي ليس مثله في سائر الشهور و لا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، الذنب فيه مغفور والسعي فيه مشكور، والوزر والإثم فيه مهجور وقلب المؤمن بذكر الله معمور.
وقد أناخ بفنائكم هو عن قليل راحل عنكم، شاهد لكم أو عليكم، مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة وهو ضعيف مسؤول من عند رب لا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول.
فالله الله أكرموا نهاره بتحقيق الصيام واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام، فلعلكم أن تفوزوا بدار الخلد والسلام مع النظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم )).
شهر اختصه الله تعالى بخصائص عديدة، ففرض صيامه و سن قيامه كما مدحه تعالى من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم في ليلة من لياليه هي خير من ألف شهر، و هو الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء كما أنه شهر التوبة و المغفرة .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))
شهر بمثابة مدرسة المسلم ليزكي فيه نفسه و يريبيها على الطاعات و القربات و يقطف خلالها من ثماره الدانية اليانعة .
قال السري السقطي: ((السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطَّافها))
قال العلامة ابن القيم في مفتاح دار السعادة:(( وأما الصوم فناهيك به من عبادة تكف النفس عن شهواتها وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها محبة له وإيثارا لمرضاته وتقربا إليه فيدع الصائم أحب الأشياء إليه وأعظمها لصوقا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه فهو عبادة ولا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة لله فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه وهذا معنى كون الصوم له تبارك))
كما جاء عن أبي هريرة في صحيح ابن خزيمة : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله :إلا الصيام فهو لي و أنا أجزي به يدع الطعام من أجلي و يدع الشراب من أجلي و يدع لذته من أجلي و يدع زوجته من أجلي و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و للصائم فرحتان فرحة حين يفطر و فرحة عند لقاء ربه )) .
جاء في معنى الحديث: أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وإنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، لأن الكريم إذا قال أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.
و يكون التعرض لهذه النفحات بأول خطوة و هي إصلاح السريرة
نقل ابن القيم عن الحسن قال:(( ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله))
و قال العلامة ابن القيم في تفسير قوله تعالى:(({يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها))
و قال سفيان الثوري: (( بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء )) .
على ذلك فمتى كان المسلم شغله الشاغل الخوف على قبول عمله من عدمه أفلح و أنجح، لكن مع الأسف تبدلت حال الناس اليوم، حيث صرفوا خوفهم إلى ما كفله و ضمنه الله لهم، و هو الرزق و أهملوا ما لم يضمنه الله لهم و هو قبول العمل .
روى ابن ابي الدنيا في الاخلاص و النية:حدثنا أبو جعفر الكندي حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه قال قال علي بن أبي طالب:((كونوا لقبول العمل أشد هَمَّا منكم بالعمل ألم تسمعوا الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ})) .
قبل أن يهل على الدنيا هلال رمضان المبارك، ينبغي أن يكون عند المسلم حرص كبير على بلوغ هذا الشهر، و أن يكون إلى الطاعات فيه من السابقين المتنافسين، و يسأل الله عز و جل أن يبلغه إياه و يجعله فيه من المتقبلين، كما قال الفضيل بن عياض: ((كانوا "يعني الصحابة " يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم )).
1- و استقباله يكون بالبهجة و السرور و الإستبشار بقدومه، والتوبة الى الله الرؤوف الرحيم التواب،لأن الله أشد فرحا بعبد إذا أقبل على التوبة و الإنابة إلى ربه، كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها – قد أيس من راحلته- فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وان ربك – أخطأ من شدة الفرح)) .
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيمانا ً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) إيمانا بمعنى معتقدا بفرضية صومه، واحتساب أي بطلب الثواب من الله تعالى و عزيمة، بأن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه بطيبة من نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه، و لا لنحو رياء، فقد يفعل المكلف الشيء معتقداً أنه صادق لكنه لا يفعله مخلصاً بل لنحو خوف أو رياء.
2-كما أن على المسلم أن يعقد العزم على تجاوز كل ما من شانه إبطال صيامه من كلام قال ابن رجب في لطائف المعارف(172/1): ((فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والنظر المحرم والسماع المحرم والكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته فأما من ضيع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد مثل ذلك في الصلاة )) .
و قد قيل إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
بل أشغل نفسك بالإكثار من الاستغفار، حتى يلهج لسانك بذكر الله، و يدخل عليك رمضان و أنت بحال المنذبين المفتقرين إلى الله، فأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين لأن زجل المسبحين ربما شابه الافتخار وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار.
3- إطعام الطعام فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات و ذلك مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : ((يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام )) و قال الله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} وقد كان بعض السلف لا يفطر إلا مع اليتامى و المساكين و قال بعضهم: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلى من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
و قال أبو السوار العدوي: (( كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه )).
4- قراءة القرآن و تدبر معانيه حيث كان السلف يتركون كل شيء و يقبلون على القرآن تلاوة و تدبرا في الصلاة كان ذلك أو في غيرها خاصة في الليل كما في حديث ابن عباس عن مدارسة جبريل للنبي -صلى الله عليه و سلم- قال ابن رجب في لطائف المعارف(169/1): ((وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى:{إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} ))
فيا أيها الإخوة ليس دخول الجنة والظفر بمراتبها العلية، ولا النجاة من النار ومن دركاتها الدنية بالأماني، ولكن بالإيمان الصادق والعمل الصالح .
ألا فلنتعرض لنفحات الله تعالى في هذا الشهر الكريم ، ولنعقد العزم من أول يوم من أيامه أن نكون إلى الله أقرب وعن النار أبعد، لكي لا نضيع فرصة قد أتت، فلعلنا لا ندرك رمضان مرة أخرى، فكم من أخ أو قريب كان معنا في رمضان الماضي وهو الآن تحت التراب .
شهر رمضان: بقدر علو الهمة تسهل المهمة
تجري الأيام بسرعة ترتجف منها القلوب الحية، تجعل أصحاب هذه القلوب يقفون مع أنفسهم محاسبين لها، مستحضرين ما قدمته و أخرته في حق الله تعالى ،فيما انقضى من أعمارهم و أيامهم قبل أن يفوت أوانهم و تنقضي آجالهم،
فيجب على المسلم أن يعتبر بما فيه معتبر و أن يعد ليوم الرحيل
قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ((ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)).
و بكون المرء من أبناء الآخرة، يبني لها بنيانها بعمل صالح و نية خالصة لله تعالى ،فذلك يسهل عليه سهولة الإنتقال لداره التي أعدها الله له .
قال ابن رجب في لطائف المعارف(59/1): ((أرض الجنة اليوم قيعان، والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان)) .
و قد فضل الله تعالى بحكمته خلقا على خلق، كما اصطفى الأنبياء و الرسل، و ملائكة على ملائكة كما اختار جبريل و ميكال، و أمكنة على أمكنة كما هي الحال بمكة و المدينة فجعلهما حرما و بيت المقدس بارك من حوله، و أياما على أيام فخَيْر يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، و شهورا على شهور كرمضان المبارك فجعل له خصاصة و قداسة .
و كل ما عظمه الله تبارك و تعالى ضاعف فيه ثواب الحسنات، و بالمقابل عظم فيها عقوبة الجارحين على أنفسهم بالسيئات .
فعن محمد بن مسلمة في المعجم الأوسط للطبراني مرفوعاً : (( إن في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً ))
و من هذه النفحات نفحة رمضان، هذا الشهر العظيم الجليل الذي تـهفُو اليه نفوس المؤمنين، و تتطلع شوقا لبلوغه أفئدة المتقين، كما قال ابن الجوزي: ((الذي ليس مثله في سائر الشهور و لا فضلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، الذنب فيه مغفور والسعي فيه مشكور، والوزر والإثم فيه مهجور وقلب المؤمن بذكر الله معمور.
وقد أناخ بفنائكم هو عن قليل راحل عنكم، شاهد لكم أو عليكم، مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة وهو ضعيف مسؤول من عند رب لا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول.
فالله الله أكرموا نهاره بتحقيق الصيام واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام، فلعلكم أن تفوزوا بدار الخلد والسلام مع النظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم )).
شهر اختصه الله تعالى بخصائص عديدة، ففرض صيامه و سن قيامه كما مدحه تعالى من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم في ليلة من لياليه هي خير من ألف شهر، و هو الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء كما أنه شهر التوبة و المغفرة .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))
شهر بمثابة مدرسة المسلم ليزكي فيه نفسه و يريبيها على الطاعات و القربات و يقطف خلالها من ثماره الدانية اليانعة .
قال السري السقطي: ((السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطَّافها))
قال العلامة ابن القيم في مفتاح دار السعادة:(( وأما الصوم فناهيك به من عبادة تكف النفس عن شهواتها وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها محبة له وإيثارا لمرضاته وتقربا إليه فيدع الصائم أحب الأشياء إليه وأعظمها لصوقا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه فهو عبادة ولا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة لله فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه وهذا معنى كون الصوم له تبارك))
كما جاء عن أبي هريرة في صحيح ابن خزيمة : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله :إلا الصيام فهو لي و أنا أجزي به يدع الطعام من أجلي و يدع الشراب من أجلي و يدع لذته من أجلي و يدع زوجته من أجلي و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و للصائم فرحتان فرحة حين يفطر و فرحة عند لقاء ربه )) .
جاء في معنى الحديث: أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وإنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، لأن الكريم إذا قال أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.
و يكون التعرض لهذه النفحات بأول خطوة و هي إصلاح السريرة
نقل ابن القيم عن الحسن قال:(( ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله))
و قال العلامة ابن القيم في تفسير قوله تعالى:(({يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها))
و قال سفيان الثوري: (( بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء )) .
على ذلك فمتى كان المسلم شغله الشاغل الخوف على قبول عمله من عدمه أفلح و أنجح، لكن مع الأسف تبدلت حال الناس اليوم، حيث صرفوا خوفهم إلى ما كفله و ضمنه الله لهم، و هو الرزق و أهملوا ما لم يضمنه الله لهم و هو قبول العمل .
روى ابن ابي الدنيا في الاخلاص و النية:حدثنا أبو جعفر الكندي حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه قال قال علي بن أبي طالب:((كونوا لقبول العمل أشد هَمَّا منكم بالعمل ألم تسمعوا الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ})) .
قبل أن يهل على الدنيا هلال رمضان المبارك، ينبغي أن يكون عند المسلم حرص كبير على بلوغ هذا الشهر، و أن يكون إلى الطاعات فيه من السابقين المتنافسين، و يسأل الله عز و جل أن يبلغه إياه و يجعله فيه من المتقبلين، كما قال الفضيل بن عياض: ((كانوا "يعني الصحابة " يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم )).
1- و استقباله يكون بالبهجة و السرور و الإستبشار بقدومه، والتوبة الى الله الرؤوف الرحيم التواب،لأن الله أشد فرحا بعبد إذا أقبل على التوبة و الإنابة إلى ربه، كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها – قد أيس من راحلته- فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وان ربك – أخطأ من شدة الفرح)) .
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيمانا ً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) إيمانا بمعنى معتقدا بفرضية صومه، واحتساب أي بطلب الثواب من الله تعالى و عزيمة، بأن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه بطيبة من نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه، و لا لنحو رياء، فقد يفعل المكلف الشيء معتقداً أنه صادق لكنه لا يفعله مخلصاً بل لنحو خوف أو رياء.
2-كما أن على المسلم أن يعقد العزم على تجاوز كل ما من شانه إبطال صيامه من كلام قال ابن رجب في لطائف المعارف(172/1): ((فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والنظر المحرم والسماع المحرم والكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته فأما من ضيع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد مثل ذلك في الصلاة )) .
و قد قيل إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
بل أشغل نفسك بالإكثار من الاستغفار، حتى يلهج لسانك بذكر الله، و يدخل عليك رمضان و أنت بحال المنذبين المفتقرين إلى الله، فأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين لأن زجل المسبحين ربما شابه الافتخار وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار.
3- إطعام الطعام فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات و ذلك مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : ((يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام )) و قال الله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} وقد كان بعض السلف لا يفطر إلا مع اليتامى و المساكين و قال بعضهم: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلى من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
و قال أبو السوار العدوي: (( كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه )).
4- قراءة القرآن و تدبر معانيه حيث كان السلف يتركون كل شيء و يقبلون على القرآن تلاوة و تدبرا في الصلاة كان ذلك أو في غيرها خاصة في الليل كما في حديث ابن عباس عن مدارسة جبريل للنبي -صلى الله عليه و سلم- قال ابن رجب في لطائف المعارف(169/1): ((وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى:{إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} ))
فيا أيها الإخوة ليس دخول الجنة والظفر بمراتبها العلية، ولا النجاة من النار ومن دركاتها الدنية بالأماني، ولكن بالإيمان الصادق والعمل الصالح .
ألا فلنتعرض لنفحات الله تعالى في هذا الشهر الكريم ، ولنعقد العزم من أول يوم من أيامه أن نكون إلى الله أقرب وعن النار أبعد، لكي لا نضيع فرصة قد أتت، فلعلنا لا ندرك رمضان مرة أخرى، فكم من أخ أو قريب كان معنا في رمضان الماضي وهو الآن تحت التراب .
0 التعليقات:
إرسال تعليق