بسم الله الرحمن الرحيم
محاسبة النفس قبل أن تحاسب من صيد الخاطر لابن الجوزي
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (474/1) دار القلم:
محاسبة النفس قبل أن تحاسب من صيد الخاطر لابن الجوزي
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (474/1) دار القلم:
1570- تفكرت في نفسي يومًا تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللطف الرباني: فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفًا بعد لطف، وسترًا على قبيح، وعفوًا عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكرًا إلا باللسان!
1571- ولقد تفكرت في خطايا، لو عوقبت ببعضها؛ لهلكت سريعًا، ولو كشف للناس بعضها، لاستحييت.
ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب، حتى يظن في ما يظن في الفساق؛ بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة فصرت إذا دعوت، أقول: اللهم! بحمدك وسترك علي اغفر لي!
1572- ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك؛ فما وجدته كما ينبغي. ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي، ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة.
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.
1573- وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر، وما حصل المقصود!!
فوجدت أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته، فكتبتها ها هنا، قال لنفسه:
يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مناظر وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر! كما يقال للمصارع: الفاره1.
ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء -وهي أيام العمر- حتى شاع لك بين من يموت غدًا اسم مناظر، ثم ينسى الذاكر والمذكور إذ درست2 القلوب! هذا إن تأخر الأمر إلى موتك؛ بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له. والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم3، وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.
أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم4، وما عبق بها فضيلة، إن نوطرت، شمخت، وإن نوصحت؛ تعجرفت، وإن لاحت الدنيا؛ طارت إليها طيران الرخم5، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتى توقر6 في المخالطة عيوبًا تبلي، ولا تحتشم نظر الحق إليها، وإن انكسر لها غرض؛ تضجرت، إن أمدت7 بالنعم؛ اشتغلت عن المنعم!!
أفٍ والله مني، اليوم على وجه الأرض، وغدًا تحتها! والله، إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب!
والله، إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني8، وأنا أتهتك،
ويجمعني وأنا أتشتت؟! وغدًا يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي، ما دفنوني.
والله، لأنادين على نفسي نداء المكشفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح الشاكلين للأبناء، إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها.
والله، ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلًا بها: اللهم! اغفر لي كذا بكذا.
والله، ما التفت قط إلا وجدت منه سبحانه برًّا يكفيني، ووقاية تحميني من تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي، وأنا عبد فقير إليه!! ولا عذري لي فأقول: ما دريت، أو: سهوت.
والله، لقد خلقني خلقًا صحيحًا سليمًا، ونور قلبي بالفطنة، حتى إن الغائبات والمكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا! وا حرماني لمقامات الرجال والفطناء! يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي! وا خذلاني عند إقامة الحجة! سخر -والله- مني الشيطان، وأنا الفطن!!
اللهم، توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم؛ فوالله ما عصيتك جاهلًا بمقدار نعمك، ولا ناسيًا لما أسلفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي.
والله، لأنادين على نفسي نداء المكشفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح الشاكلين للأبناء، إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها.
والله، ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلًا بها: اللهم! اغفر لي كذا بكذا.
والله، ما التفت قط إلا وجدت منه سبحانه برًّا يكفيني، ووقاية تحميني من تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي، وأنا عبد فقير إليه!! ولا عذري لي فأقول: ما دريت، أو: سهوت.
والله، لقد خلقني خلقًا صحيحًا سليمًا، ونور قلبي بالفطنة، حتى إن الغائبات والمكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا! وا حرماني لمقامات الرجال والفطناء! يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي! وا خذلاني عند إقامة الحجة! سخر -والله- مني الشيطان، وأنا الفطن!!
اللهم، توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم؛ فوالله ما عصيتك جاهلًا بمقدار نعمك، ولا ناسيًا لما أسلفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي.
1 الفاره: الحسن البارع.
2 درست: عفت وانمحت.
3 أحيا ذكرهم.
4 هو كتاب "الفنون".
5 الرخم: طائر جارح على شكل النسر، غزير الريش، مبقع بسواد وبياض، له منقار طويل التقوس، يوصف بالغدر والحمق.
6 توقر: تحمل وتقترف، وفي الأصل: توفر، وهو تصحيف.
7 في الأصل: امتدت.
8 في الأصل: سترني.