بسم الله الرحمن الرحيم
باب: في أن السلطان مع رعيته مغبون غير غابن وخاسر غير رابح لأبي بكر الطرطوشي-رحمه الله تعالى-
قال أبو بكر محمد بن محمد ابن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي في كتابه "سراج الملوك" :
اعلموا أرشدكم الله أن السلطان خطره عظيم وبليته عامة، وقد يطرقه من الآفات ويحتوشه من الأمور المهلكات، ما يجب على كل ذي لب أن يستعيذ بالله مما حمله ويشكره على ما عصمه، لا يهدأ فكره ولا تسكن خواطره، ولا يصفو قلبه ولا يستقر لبه، الخلق في شغل عنه وهو مشغول بهم، والرجل يخاف عدواً واحداً وهو يخاف ألف عدو، والرجل يضيق بتدبير أهل بيته وإيالة ضيعته وتدبير معيشته، وهو مدفوع لسياسة جميع أهل مملكته، وكلما رتق فتقاً من حواشي مملكته انفتق آخر، وكلما رم منها شعثاً رث آخر، وكلما قمع عدواً أرصد له أعداء إلى سائر ما يعانيه من أخلاق الناس، ويقاسيه من خصوماتهم، ونصب الولاة والقضاة وبعث الجيوش وسد الثغور، واستجباء الأموال ودفع المظالم؛ ثم من العجب العجاب أن له نفساً واحدة وإنما يرزأ من الدنيا قوته مثل ما يرزأ آحاد الرعايا، ثم يسأل غداة غد عن جميعهم ولا يسألون عنه.
فيا، لله ويا للعجب من رجل يرضى أن ينال رغيفاً ويحاسب منها على آلاف آلاف، ويأكل في معاء واحد ويحاسب على آلاف آلاف معاء، ويستمتع بنفس واحدة ويحاسب على آلاف آلاف من الأنفس! وعلى هذا النمط في جميع أحواله يحمل أثقالهم ويريح أسرارهم، ويجاهد عدوهم ويسد ثغورهم، ويدفع مناويهم ومناصيهم، ويعصي ربه فيهم ويخالف أمره ويرتكب نهيه من أجلهم، ويقتحم جراثيم جهنم على بصيرة منهم ثم يجدهم له قالين وعنه غير راضين، ولولا أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه لم يرض عاقل بهذه المنزلة، ولا اختارها لبيب مرتبة، وكل ما ذكرته في هذا الباب أحكمه النبي صلى الله عليه وسلم في كلمة فقال: ما لكم ولأمرائي لكم صفو أمرهم وعليهم كدره. ومثال السلطان مع الرعية كالطباخ مع الأكلة له العنا ولهم الهنا، وله الحار ولهم القار، طلب القوم الراحة فحصلوا على التعب، طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الصراط المستقيم؛ وعن هذا قالوا: سيد القوم أشقاهم. وفي الحديث: ساقي القوم آخرهم شرباً.
وكان بعض سلاطين المغرب يسير يوماً وبين يديه الوزراء إذ نظر إلى جماعة من التجار فقال لوزيره: أتريد أن أريك ثلاث طوائف: طائفة لهم الدنيا والآخرة، وطائفة لا دنيا ولا آخرة، وطائفة دنيا بلا آخرة؟ فقال: أما الذين لهم الدنيا والآخرة فهؤلاء التجار، يكسبون أقواتهم ويصلون صلاتهم ولا يؤذون أحداً، وأما الذين لا دنيا ولا آخرة فهؤلاء الشرط والخدمة الذين بين أيدينا، وأما الذين لهم الدنيا بلا آخرة فأنا وأنت وسائر السلاطين.
فحق على جميع الورى أن يمدوا السلطان بالمنا والمناصحات، ويخصوه بالدعوات ويعينوه في سائر المحاولات، ويكونوا له أعيناً ناظرة وأيد باطشة وجنناً واقية وألسنة ناطقة، وقوادم تنهضه وقوائم تقله، وهيهات منه السلامة وأنى له بالسلامة؟ وعن هذا قال بعض السلاطين يوماً لأصحابه: اعلموا أن الجنة والسلطان لا يجتمعان.
سراج الملوك للطرطوشي ص(46) (47) .